هل تُسهم العمارة في إشعال الحروب فِعلاً..؟

العمارة ، نشر للتعايش أم للحرب ؟

لقد تحدثت وسائل الإعلام العالمية والعربية عن المهندسة المعمارية السورية “مروة الصابوني” وعن حديثها عن (تأثير العمارة على الحرب ودور الهندسة المعمارية في نشر التعايش).

تكلمت وسائل الإعلام عن مساهمة الهندسة المعمارية ولو بشكل ثانوي في حدوث الحرب السورية، وعن رأي المهندسة “مروة الصابوني” في دور الهندسة المعمارية في المجتمع حيث قالت: «سواء كانت أماكن خاصة أم عامة فإن عمارة المكان تؤثر على حياة الناس في عدة مستويات، يجب أن تكون المباني جميلة وممتعة وتسمح بتواصل الناس والعيش معا».

العمارة والمجتمع والسياسة

لا يمكن لأي شخص متخصص في الهندسة المعمارية أن يخفي الارتباط الوثيق بين العمارة والمجتمع من جهة وبين العمارة والسياسة من جهة أخرى، ولكي نفهم هذا الارتباط وهذه العلاقة سنقدم للقارئ الكريم مثالين مهمين لتبسيط الموضوع:

المثال الأول:

معلوم أن المهندس المعماري المشهور “لوكوربوزييه” هو من إخترع ما يسمى بالوحدة السكنية، وهي عبارة عن عمارات سكنية بطوابق كثيرة تتكون من شقق عديدة تأوي الكثير من العائلات.

تعرضت هذه الوحدات السكنية فيما بعد إلى إنتقاد كبير وذلك لعدة أسباب، من بينها أسباب اجتماعية، فقد كان “لوكوربوزييه” قد صمم هذه الوحدات بطريقة يقوم ساكنوها بالعيش فيها والعمل والتسوق والاستراحة، كل هذا يحدث في الوحدة السكنية الواحدة، وذلك من خلال تخصيص الأماكن اللائقة بذلك، فلا يحتاج الإنسان إلى التنقل خارجها للعمل أو للتسوق أو التجول، إنه مفهوم يعمل على الجمع بين السكن والعمل والترفيه والتجول في مكان واحد.

مفهوم يبدو لأول وهلة فعال ومثير للاهتمام ولكن تبين أنه يؤدي في الحقيقة إلى تصدع العلاقات الاجتماعية بين الوحدة السكنية والعالم، ونقص التبادلات الاجتماعية بينهما، كما يؤدي إلى تكاثر الآفات الاجتماعية في الوحدة السكنية الواحدة من خلال سهولة إنتشار المخدرات والسرقة والانحلال الأخلاقي، حتى أصبحت هذه الوحدات السكنية مكانا لتفريخ المجرمين وتكوين العصابات والخارجين عن القانون. أمر استدعى تدخل السلطات والمتخصصين في علم الاجتماع العمراني لإيجاد الحلول وذلك ما حصل بالفعل.

المثال الثاني:

مدرسة “الباوهاوس” في ألمانيا من بين المدارس العالمية المعروفة في الهندسة المعمارية، وهي تتبنى الطراز العالمي وتبحث عن الحديث والمعاصر، وهذا ما أدى إلى غلقها من طرف النازيين وإتهامها بالإضرار بالهوية الألمانية والعمل على ضياعها، قرار سياسي دفع بكثير من المعماريين في ذلك الوقت إلى ترك ألمانيا والهجرة نحو الولايات المتحدة الأمريكية، من بين هؤلاء المعماريين مؤسس هذه المدرسة “والتر غروبيوس”.

كما أيضاً يشهد التاريخ أن دولة الموحدين عندما تغلبت على دولة المرابطين في شمال إفريقيا قامت بهدم الكثير من معالمها ومنشآتها المعمارية، ويذكر المؤرخون ذلك كسبب لقلة المنشآت المعمارية المرابطية.

إذاً، هل تُسهم العمارة في إشعال الحروب فعلاً..؟

صحيح أن الهندسة المعمارية يمكنها العمل على توحيد الناس وجمعهم وعلى التأثير نوعاً ما في الحالة الاجتماعية للبشر وتحسينها، وحتى بإمكانها إيجاد الحلول لمشاكل معينة، وقد حدثني أحد الأساتذة الذين درسوني في “تاريخ النقد المعماري” أن إنجلترا في وقت من الأوقات كانت تعاني من العنف في ملاعب كرة القدم، ومع وضع السياج العازل بين الجمهور واللاعبين إزداد العنف أكثر فقررت السلطات الاتصال بأحد المعماريين المتخصصين في نفس الوقت في علم النفس والاجتماع،،

وبعد دراسة طويلة للموضوع إقترح عليهم نزع السياج وتقريب المدرجات أكثر من أرضية الميدان حتى لا يكون بينهم وبين اللاعبين إلا أمتار قليلة، فاحتار المسؤولون من إقتراح المعماري، فأكد لهم أن الأمر سيكون بالتأكيد ناجحاً.

كان ينتظر المسؤولون أن تحصل مجزرة في الملعب ولكن في الواقع لم يحصل شيء من العنف ولا حتى بالكلمة، لقد جلس المناصرون يتفرجون بكل هدوء حتى نهاية المباراة ليقوموا من أماكنهم ويغادروا الملعب بنظام لم يسبق له مثيل.

وبالفعل ما زالت الملاعب الإنجليزية مصممة بهذا التصميم حتى يومنا هذا. يرجع ذلك إلى شعور المناصرين بالثقة التي منحتها السلطة لهم فلا يريدون أن يخيبوا أمال السلطة فيهم، ومن جهة أخرى فإن الإنسان إذا كان مقترباً جداً من غيره فإنه يخشى أن يرميه بشيء فيصيبه إصابة بالغة فيعيقه أو يقتله، بخلاف لو كان بعيداً عنه فإنه يضربه معتقداً أنه لو أصابه فأكبر ما يمكن أن يحصل له مجرد خدشه أو إصابته إصابة خفيفة.

كل هذه المفاهيم تدرس في الجامعة ويتخصص المعماريون فيها وحتى طلبة تاريخ الفنون وعلم النفس والاجتماع، وهذا كما ذكرت سابقاً أمر علمي مفهوم لا شك فيه، ولكن التحدث عن تدخل العمارة في إثارة الحرب فهذا ما يستحيل أن يكون ولا يمكن أن يحدث،،

فلم نسمع في التاريخ كله من العصور القديمة إلى يومنا هذا عن مثل هذه النظرية وهذا التحليل، ويوجد في العالم أماكن عمارتها رديئة جداً وغير متطورة ولكن لم تحصل هناك حروب ولا حتى مجرد إقتتال بسيط كما في أماكن في إفريقيا وفي البرازيل وفي المناطق المتجمدة، أضف إلى ذلك لا يمكن برهنة هذا علما ولا حتى إقامة الأدلة عليه ولا أعتقد حتى أن المهندسة المعمارية “مروة الصابوني” قالت به ولا قصدته، ولا غيرها بل هذا من فعل الصحافة لا أكثر ولا أقل.

إن الهندسة المعمارية لم تكن يوماً عنيفة ولا متوحشة، لم تقتل أحداً ولم تساهم في قتل أحد، هي أبعد ما تكون عن الحروب والقتال، ولم تؤثر سلباً حتى على الطبيعة ولكن ذلك من فعل الإنسان، إن الهندسة المعمارية تقدم الحلول وتتكلم بهدوء وتعمل بأمن إنها رسالة سلام مهما كان نوعها، فحتى المنازل البدائية رغم بساطتها كانت تحمل رسالة السلم والأمن، رسالة لا يفهمها الكثير ولكن هناك من يستطيع قراءتها وفهمها.

شـاهد أيضاً..

مدينة في وسط المحيط قريباً

” يانسونغ ما ” عندما تُستوحى الهندسة المعمارية من جمال الطبيعة

Scroll to Top